قبل الغزو الأميركي للعراق كان الجميع يتحدثون باسم الشعب العراقي دون اهتمام بابراز أي تفويض منه· وكان ذلك مبررا من زاويتين· فالشعب العراقي لم يكن يجرؤ على الحديث باسم نفسه· وبالتالي كان مفهوما أن يتحدث أي فاعل نيابة عن هذا الشعب حتى بدون تفويض· ومع ذلك كانت كل مظاهر التأييد لهذه المزاعم فاقدة للمصداقية وإلا لكنا صدقنا المسيرات المليونية الحاشدة التي سيرت في بغداد للهتاف بالدفاع عن صدام حسين بالروح والدم· ولما لم نجد ترجمة فورية -أثناء وبعد الغزو مباشرة- للتهديد والوعيد الذي صرحت به هذه المسيرات كان من المحتمل أن نصدق الطرف الآخر الذي تحدث باسم الشعب العراقي بكل ثقة وخاصة عصابة البنتاجون التي دفعت بلادها إلى هاوية الغزو واعدة الشعب الأميركي بأن جنوده سيجدون أحضانا عريضة ودافئة وأغصانا وزهورا يلقيها عليهم الشعب العراقي بالملايين· وما حدث في الواقع كان غير ذلك· فلم يحدث كساد في الأسواق العالمية للورود والرياحين لأن الشعب العراقي لم يجد ضرورة لاستيرادها خصيصا لالقائها على صدور الغزاة· ولم يطل الوقت قبل أن نجد الرصاص والقنابل تلقى في وجه الجنود الأميركيين· فبغض النظر عن الخلاف حول طبيعة ما يفعله هؤلاء الذين يلقون المواد الناسفة في كل مكان فأغلبيتهم كما يقول بريمر نفسه من الشعب العراقي ·
ويغدق كل الساسة وكل الكتاب وكل من هب ودب على نفسه بأريحية صلاحية الحديث باسم الشعب العراقي حتى الآن· وكان من الممكن أن نصدق كل من أدعى بدون بينة لأنه كان مستحيلا معرفة رأي الشعب العراقي· والمشكلة الوحيدة التي صادفت هذا الاستعداد الصافي للتصديق هي أن السذاجة لها حدود ناهيك عن كونها قد صارت في هذا العالم الوغد سلعة نادرة· فقد انتهينا إلى آلاف الآراء المتناقضة للشعب العراقي: أنه رحب بالقوات الأميركية وهو يقاوم ببسالة منقطعة النظير القوات الأميركية، هو يطالب بالانسحاب الفوري للقوات الأميركية وفي الوقت نفسه ببقاء القوات الأميركية لأطول فترة ممكنة، هو غاضب من الشعوب العربية التي لم تناضل ضد صدام حسين وهو ممتعض من الشعوب العربية التي تتركه يقاتل وحده القوات الأميركية وهكذا·
فإذا لم يعد بوسعنا أن نصدق المسيرات الحاشدة ولا الادعاءات المجانية للمناضلين المزعومين والحقيقيين ولا التصريحات الوردية للمحتلين والمنكوبين بمرض البحث عن دور، وجدوه أخيرا في العراق، من بين الأجناس والدول والعصابات التي لم يكن الشعب العراقي يعرف مجرد اسمها، فمن نصدق إذاً؟
هل نصدق استطلاعات ومسوح الرأي العام؟
لقد تجمعت لدينا بعض نتائج هذه الاستطلاعات التي تكاثرت في الآونة الأخيرة· فهل تقول لنا تلك الاستطلاعات شيئا مفيدا عن آراء الشعب العراقي؟ وهل يمكننا التسليم بأن ما نسمعه من خلالها هو صوت الشعب العراقي ولا أحد غيره؟
تقودنا مجرد الأرقام الواردة في تلك الاستطلاعات إلى نتيجة واحدة مؤكدة: وهي أن الشعب العراقي الذي يظهر في تلك الاستطلاعات ليس سوى كيان غامض·
فوفقا لاستطلاع جالوب الأخير يرى ثلثا الشعب العراقي أن خلع نظام صدام حسين يستحق كل هذا العناء والبلاء الذي يعيشونه منذ وقوع الاحتلال· وقد احتفل السيد تشيني نائب الرئيس الأميركي بارتياح شديد بهذا الرقم· ولكن وكما يقول والتر بينكوس في جريدة النيويورك تايمز لا تبدو بهجة السيد ديك تشيني مبررة لأن 47% من سكان بغداد قالوا إنهم صاروا أسوأ حالا و94% منهم قالوا إن بغداد صارت مدينة خطرة على الحياة·
وفي حين يؤكد 60% من أهالي بغداد -وفقا لاستطلاع زغبي انترناشيونال - أنهم يريدون بقاء أميركا في العراق لعام آخر على الأقل، فإن 29% منهم هم من يحملون تقديرا ايجابيا لأميركا مقارنة ب 44% يحملون تقديرا سلبيا لها مقابل 55% يحملون تقديرا ايجابيا لفرنسا وهي الدولة التي يعرف العراقيون أنها تطالب بانسحاب فوري للقوات الأجنبية، وتسليم الحكم للعراقيين على وجه السرعة· وليس هناك ما يدعونا للاعتقاد أن العراقيين وقعوا في غرام فرنسا لسبب آخر غير مقاومتها للغزو الأميركي للعراق· وإمعانا في التنكيل بأي شخص لديه الرغبة في أن يرى منطقا منسجما فيما يقوله أي شعب، يقول نصف الشعب العراقي وفقا لهذا لاستطلاع الأخير إنهم يعتقدون أن أميركا تضر العراقيين وذلك مقابل 35% فقط قالوا إنها تساعدهم· فلماذا يريد هؤلاء بقاء القوات الأميركية لأكثر من عام طالما أنها تضر بهم، اللهم إلا إذا كانت إحدى الصفات المستحدثة في الشعب العراقي هي كراهية الذات والرغبة في الإضرار بالنفس · وعلى أي حال لو كان ذلك سليما فلماذا يحتاج العراقيون إلى أميركا وقــد أثبتوا -مثلهم مثل بقية الأشقاء العرب- قدرة فذة على الإضرار بأنفسهم، ودون حاجة لأية مساعدة أجنبية في هذا المجال الحيوي!
والواقع أننا مضطرون أيضا -بحكم نفاد كمية السذاجة التي نملكها- للتشكيك في مصداقية هذه الاستطلاعات· فالشعب العراقي مثله مثل كافة الأشقاء العرب لا يعرف ما هي استطلاعات الرأي أو لعلنا نذهب مع النكتة التي حكت عن الشعب العراقي عندما