قرأت عنوان تجديد الخطاب الديني أول ما قرأت، في الدعوة التي وجهها إلى المثقفين العرب المجلس الأعلى للثقافة في مصر، لحضور مؤتمر بعنوان: التجديد الثقافي العربي - وقد كان ذلك قبل أربعة أشهر· وقد حضرت المؤتمر الذي كانت فيه جلسة لمناقشة تجديد الخطاب الديني ، ترأسها وزير الأوقاف المصري الدكتور محمود زقزوق -وهو أزهريٌ، وقد كان عميداً لكلية أصول الدين-، وتحدثت فيها إلى جانب حسن حنفي وأحمد عبدالمعطي حجازي وأدونيس وآخرين كثيرين· وما كانت المناقشات مرضية، لأن أكثر الحضور ما كانوا من المتخصصين، و كانوا جميعاً تقريباً من اليساريين السابقين أو العلمانيين الذي لا يأبهون للدين، ويستطيعون الآن أن يقولوا كل شيء تحت راية الحملة على الأصولية· وما حضر أحد من الإسلاميين، مما اضطر الدكتور جابر عصفور، أمين المجلس الأعلى للثقافة، إلى اعتباري وزقزوق وحسن حنفي ممثلين أكفاء وكافين للتيار الإسلامي· والواقع أن هذا غير صحيح، لأن التيار الإسلامي الجديد (الإحيائي) يقول بالدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة ونحن الثلاثة لا نقول بها وإن اختلفت أسبابنا·
بعد المجلس الأعلى للثقافة، استلم الدفة مركز القاهرة لحقوق الإنسان، فنظّم ندوة في باريس· لا أدري لماذا في باريس مع أن الحضور جميعاً كانوا عرباً ومسلمين؟ عن تجديد الخطاب الديني، شارك فيها معظم من شاركوا في ندوة المجلس الأعلى في القاهرة، بالإضافة إلى خمسة جدد من المغرب، والمقيمين في فرنسا· تقدم الحضور بأربع ورقات ناقشها الآخرون· وما حضرت الندوة، لأن كاتبي الورقات غير مختصين، وأطروحاتهم معروفة: فصل الدين عن الدولة· وبغض النظر عن صحة ذلك أو عدمه، فإن الحوار لا يستقيم ما دام الإسلاميون سيقاطعون أو يتغيبون منذ البداية، وهكذا فإن وجهة نظرهم لم تسمع·
على أن الأمر لم ينته عند هذا الحد· صحيح أن الصمت السلبي استمر من جانب الإسلاميين، لكن التنويريين والليبراليين لم يسكتوا، بل أصروا على تكرار الأطروحات في الصحف، وخاصة أولئك الذين واللواتي لم يدعهم أو لم يدعهن المجلس الأعلى للثقافة في مصر -وكان من بين هؤلاء الدكتور جابر عصفور، الذي دعا لاجتماع المجلس الأعلى، ثم كتب عن ذلك سلسلة من المقالات في الأهرام ·
فهم وزير الأوقاف المصري، الدكتور محمود زقزوق، الخطاب، في جلسة مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة، باعتباره الشكل أو الأسلوب الذي يمارس من خلاله الخطباء والوعّاظ، الدعوة الدينية فيما بين المسلمين، وفي الخارج· ولذلك ردّ على المنكرين والمستنكرين، بأن وزارة الأوقاف، وهي الجهة المشرفة على المساجد والأئمة، تطور ثقافة الأئمة والخطباء، بإقامة الدورات التدريبية، وبإصدار الكتب الإرشادية والمجلات، وبتعليم اللغات العصرية، للذين يمارسون الدعوة خارج البلاد العربية· لكن عندما استمر الهجوم على الخطاب ، وتناول أحدهم طرائق تفسير القرآن، ومفاهيم مثل المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لجأ الوزير إلى الخطاب الإصلاحي، فحاول طمأنة الحضور -دون أن يفلح في ذلك- إلى أن مفهوم النسخ التقليدي، يمكن بل يجب الاستغناء عنه، بمقتضى عصمة النص القرآني، وجلالته، وعدم تعرضه للتغيير في أصله، وليس في تفسيره وتأويله· والواضح أن الخطاب لا يتناول الشكل أو الأسلوب بالتجديد، بل المضامين· فقد ارتأى المترجمون والشارحون لفلسفة ميشال فوكو في الســـــبعينيات ومـــــا بعـــــد، ترجمــــــة مفرد sruocsiD الفرنسي به· وأنا أرى أن ذلك ملائم، إذ إن معنى الخطاب لدى علماء أصول الفقه: كلام الله المتعلق بأفعال العباد، أمراً ونهياً وحكاية وإنشاء· وهكذا فإن المثقفين الذين كانوا يدعون لتجديد الخطاب، إنما كانوا يقصدون إلى تجديد الفكر الديني، على اختلاف فيما بينهم في حدود ذلك وإمكانياته· فالمعتدلون والتقليديون الجدد (مثل وزير الأوقاف المصري)، يقصدون من تجديد الخطاب: التفسير الإصلاحي الذي يراعي ظروف العصر والحداثة، ويبقى في إطار الممكن اللساني واللغوي· والذين يريدون إصلاحاً جذرياً مثل محمد أركون وأدونيس وحسين أحمد أمين والعشماوي ونصر أبوزيد وعبدالمجيد الشرفي··· إلخ، إنما يقصدون تجاوز القديم كله، بما في ذلك النص أحياناً، مشددين على تاريخية النص، وانقضائه أو انقضاء التأويلات والتفسيرات على الأسس القديمة لقراءة النص أو تصوّر التاريخ الديني للأمة·
وأنا أرى أن المشكلة تكمن في التحليل أو التشخيص، بحيث تأتي اقتراحات الإسلاميين المعتدلين والتغييريين الليبراليين والعلمانيين غير ملائمة على حد سواء· إذ الواضح أن الطرفين يعتبران الأصولية المعاصرة استمراراً للتقليد الجامد الذي حاربه الإصلاحيون وفشلوا في ذلك· وإلى شيء من ذلك ذهب الدكتور عزيز العظمة، العلماني المعروف، عندما اعتبر أن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ينتميان إلى الخط نفسه الذي ينتمي إليه حسن البنا و سيد قطب والأصوليون المعاصرون- بينما ذهب الأكثر اعتدالاً إلى أن التفكير الإسلامي تردى وتراجع خلال القرن العشرين من جمال الدين إلى محمد عبده إلى رشيد رضا