عندما يتعلق الأمر بالعراق، يبدو أن مواقف إدارة بوش حيال العالم تنقض نفسها على نحو غريب وتثير المشكلات ذاتها التي تحاول الإدارة تجنبها· لقد أصبحت القوات الأميركية مضغوطة إلى حد يفوق قدراتها، وصارت فاتورة إعادة الإعمار ذات أرقام فلكية، وبات من المرجح أن يؤدي الاحتلال العاري المكشوف إلى توليد مشاعر العداء لأميركا، لكن واشنطن على رغم ذلك ما زالت غير مهتمة كثيراً بعملية التدويل الحقيقية· وقد انبرى دونالد رامسفيلد المعروف بصراحته المميزة، لشرح السبب في مقالة له بعنوان ماوراء بناء الأمة نشرتها الواشنطن بوست يوم 25 سبتمبر الماضي و وجهات نظر ( 26 سبتمبر)، حيث شجب نوع بناء الأمة الذي انخرطت فيه الأمم المتحدة، وقال إن اشتراك أطراف أخرى في احتلال العراق (يعني وزارة الخارجية والأمم المتحدة)، كان سيعني، لو تحقق، أنها ستفسد الأمور·
ولعلكم تتوقعون من وزير الدفاع أن ينهمك في التطرق على نحو جدي إلى هذا الموضوع البالغ الأهمية· لقد جرت دراسات عديدة متأنية في موضوع جهود بناء الأمة، وكان أحدثها الدراسة التي قامت بها مؤسسة راند ، غير أن رامسفيلد لا يشير إلى أي من تلك الدراسات، بل إنه يسند آراءه ووجهات نظره إلى بضع حكايات ومعلومات مضللة غير موثوقة·
ويتألف متن المقالة من نسخة (معدلة بعض الشيء) عن خطاب ألقاه رامسفيلد في شهر فبراير أورد فيه حججاً للبرهنة على أن الأمم المتحدة شجعت مناطق مثل تيمور الشرقية وكوسوفو على التحول إلى مناطق تعتمد عليها سياسياً واقتصادياً·
ولإقامة الدليل على هذا، يشير رامسفيلد إلى أن الأمم المتحدة، بعد مضي 4 سنوات على الحرب، ما زالت تدير كوسوفو بأمر تنفيذي، وتقوم بإصدار الطوابع البريدية وجوازات السفر ورخص قيادة السيارات · إن ذلك منطق يفتقر إلى المعلومات الكاملة والصحيحة، ولابد لرامسفيلد من أن يعلم أن الأمم المتحدة مازالت تقوم بإصدار الطوابع البريدية وجوازات السفر في كوسوفو لأن الأمم المتحدة وأوروبا لم تقررا بعد ما إذا كانت كوسوفو مقاطعة يوغوسلافية أم بلداً مستقلاً· وكان حرياً بالسلطات المحلية هناك أن تصدر جوازات السفر، فإن في ذلك تسوية للأمور على الأرض· لكن بيروقراطية الأمم المتحدة ليست هي ما رمى كوسوفو في طيات النسيان، بل المأزق السياسي الذي لم تحله واشنطن·
ويفيد الانتقاد الآخر الذي أطلقه رامسفيلد بأن هذه الإدارات الدولية قد أدت إلى توليد التشوهات في الاقتصاد، وهو يقول إن العاملين لدى الهيئات الدولية في تيمور الشرقية يتقاضون أجوراً أكبر بـ200 ضعف من متوسط الأجور المحلية؛ وفي كوسوفو يقوم السائق بنقل العاملين لدى الهيئات الدولية ليكسب في الشهر الواحد 10 أضعاف مرتب أستاذ الجامعة، كما تدفع الإدارة التابعة للأمم المتحدة إلى موظفيها من السكان المحليين مرتبات تبلغ ما بين 4 إلى 10 أضعاف مرتبات الأطباء والممرضات· ينبغي على رامسفيلد أن يقوم بإيراد المزيد من المعلومات؛ ولو أنه سافر إلى أي مكان من آسيا أو أفريقيا، للاحظ أن الناس الذين يعملون لدى الشركات الغربية أو المنظمات غير الساعية إلى الربح يجنون من الأموال أكثر بكثير مما يجنيه السكان المحليون· ويعود سبب ذلك إلى التفاوت الهائل في الأجور بين بلدان الغرب وبلدان العالم النامي، وكذلك إلى أن الشركات الغربية تدفع لموظفيها في الخارج أجوراً بمقياس غربي·
ويبدو أن مشكلة رامسفيلد ليست مع الهيئات والمنظمات الدولية، بل مع الرأسمالية العالمية· ويمكن للمرء أن يرى هذه الظاهرة واضحة هذه الأيام في بلد واحد هو العراق، حيث نجد أن حاكماً إدارياً دولياً رفيع المستوى- أي أنه موظف مدني رفيع الرتبة في سلطة التحالف المؤقتة، أو جنرال أميركي عسكري- يجني في الشهر الواحد نحو 10 آلاف دولار أميركي، بما في ذلك بدل السكن· وتقول تقديرات البنتاغون إن الأطباء كانوا يتقاضون في السنة الماضية 20 دولاراً في الشهر· وللعدل أقول إن الأجور المحلية ارتفعت الآن، لكن أستاذ الجامعة في بغداد اليوم يتقاضى في أحسن الأحوال ما بين 200 إلى 300 دولار فقط في الشهر· ويعني ذلك أن مسؤولاً في سلطة التحالف يكسب 50 ضعف راتب أستاذ الجامعة العراقي· ولذلك فإن العراق يجعل كوسوفو وتيمور الشرقية يبدوان كأنهما مجتمعان من المجتمعات التي تسود فيها المساواة بين البشر على طراز المجتمع السويدي·
إن رامسفيلد محق في التحذير من التدخل الشديد الذي يخلق الاعتماد على الغير، لكن الخطر الأكبر في الواقع يكمن في التدخل الخفيف· وإن تحويل المسؤولية عن المؤسسات الضعيفة إلى السكان المحليين أمر من شأنه أن يعيد البلاد إلى هياكل السلطة التقليدية التي تكون في أكثر الأحيان مشبعة بالأحقاد والفساد· وفي أفغانستان على سبيل المثال، أدت لمسة رامسفيلد الخفيفة إلى عودة حكم أمراء الحرب، وإلى وجود حكومة مركزية تتصف بالضعف الشديد الخطير، وكذلك إلى فورة جديدة في نشاط طالبان · وبحسب منطق رامسفيلد ، كان ينبغي أن يؤدي حكم أميركا الخفيف في هاييتي وخروجها منها في التسعينيات إلى خلق دي