في المناظرة التلفزيونية الثالثة بين مرشحي الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية الأميركية، اختلف الأمر عن المناظرتين السابقتين· فعدد المتنافسين ارتفع من تسعة إلى عشرة· والعاشر لم يكن إلا الجنرال (العميد) المتقاعد ويسلي كلارك·
وقد بدا أن ذاك العسكري المتوتر قليلاً يحظى بموقع خاص يميزه عن رفاقه التسعة الآخرين· فهو لم ينخرط في التراشق الحاد نسبياً الذي دار بين ديك غيبهارت وجون كيري وبين هوارد دين في ما خص اتهام الأولين للأخير بمماشاة سياسات نيوت غينغريتش، الجمهوري اليميني ورئيس مجلس النواب السابق· وهذا التعالي إذا ما رده البعض إلى عجرفة وصف بها دوماً كلارك، ورده بعض آخر إلى قلة تعوده على المناظرات السياسية، فالمؤكد أن سببه الأبرز لا هذا ولا ذاك·
فالجنرال الوافد حديثاً إلى الحلبة الانتخابية يريد أن يبقى فوق السجال· وهذا ما استشعره المنافسون أنفسهم فأتاحوا له البقاء فوقه لشعورهم، على الأرجح، أن حرقه سيكون سيئاً لحزبهم برمته· فهو، بحسب استقصاءات الرأي العام الأخيرة، الأكثر تأهيلاً لإنزال هزيمة انتخابية بالرئيس والمرشح الجمهوري جورج دبليو بوش·
إلى ذلك، فويسلي كلارك لم ينتسب إلا مؤخراً إلى الحزب الديمقراطي· وهو بنفسه أعلن أنه صوّت مرتين، طوال تاريخه الشخصي، لمرشحين جمهوريين هما الرئيس ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان· وجدّة الانتساب إذا ما كانت تثير امتعاضاً طبيعياً بالحسد عند الحرس القديم من الحزبيين، إلا أنها تحفظ صاحبها خارج خلافات الماضي ومهاتراته، وهذا، بالتالي، ما يساعده في استقطاب وإعادة تصليب المتن الحزبي العريض، الذي كان بيل كلينتون خير من استنهضه في ،1992 بعيداً عن يسارية هوارد دين وعن يمينية جوزيف ليبرمان·
لكن العنصر الأبرز يتمثل، بالتحديد، في عسكرية الرجل· فهو، من غير شك، يريد أن يستعيد في ذاته أصداء قديمة لها وقعها وموقعها في التاريخ السياسي للولايات المتحدة· وقد تجسد هذا الماضي في الجنرال دوايت أيزنهاور الذي أجمع عليه الجمهوريون حين نافس الرئيس الديمقراطي هاري ترومان في ،1952 وكاد يتجسد ثانية في الجنرال ووزير الخارجية الحالي كولن باول حين تردد أنه سيكون المرشح الجمهوري المجمع عليه لمنافسة الديمقراطي آل غور، قبل أن يعتذر هو نفسه عن المهمة· وهنا يكمن، في الواقع، بيت القصيد: فأيزنهاور هو من كسب الحرب العالمية الثانية، وباول هو من كسب حرب الخليج لتحرير الكويت· وهذه الصفة تصح في ويسلي كلارك الذي كسب بدوره، حرب البلقان· وفي ظل الأجواء الأمنية شبه الهستيرية التي أطلقتها إدارة بوش الابن بعد مأساة 11 سبتمبر ،2001 لايمكن على الإطلاق تصوير من كسب حرباً بأنه مفرّط في مجال الأمن· وهذه نقطة القوة الأولى للمرشح الديمقراطي الآتي من صفوف الجيش·
بيد أن ملاحظتين أخريين تعززان نقطة القوة المذكورة:
الأولى، أن حرب العراق التي لا تزال متعثرة وملبدة النتائج، لم تحوّل الرئيس بوش إلى بطل يستثمر بطولته في الانتخابات· صحيح أنه كسب الحرب عسكرياً إلا أن الأكلاف، البشرية والاقتصادية، التي لا زالت الولايات المتحدة تتكبدها، وقد تتكبدها في المستقبل يصعب التكهن بنهايتها، تقول إن الكلام عن انتصار نهائي لا يزال سابقاً لأوانه· وحتى في أفغانستان نفسها، لا يزال التعثر والعجز يخيمان على الجهود المبذولة لإنعاش الاقتصاد وبناء السلطة المركزية وامتدادها إلى الأطراف·
والثانية، أن كلارك المحارب وقف ضد حرب العراق وضد مجمل النهج الذي خيضت بموجبه، ولا تزال تخاض، الحرب على الإرهاب·
يترتب على ما سبق أننا لسنا حيال نهج صارم ونهج مفرّط، على ما قيل بخصوص هوارد دين، بل حيال نهجين مختلفين في تحقيق الأمن للولايات المتحدة·
ونهج الجنرال الديمقراطي، وإن لم ينتج بعد برنامجاً متبلوراً، ينطوي على بنود تذكّر بالسياسات التقليدية للحزب الديمقراطي، فضلاً عن بعض السياسات التقليدية الأميركية مما انقلبت عليه الإدارة الحالية· فهو حريص على كسب الحلفاء، لا سيما الأوروبيين ممن اكتشف في البلقان أهمية العمل والتنسيق معهم، حتى لو اعترى ذلك كثير من الخلاف والتباين في الرأي والتقدير· وهو متمسك بسياسات تقدمية في الداخل، كالتراجع عن الإعفاءات الضريبية الهائلة للأغنياء بهدف تمويل الأمن والدفاع والبرامج الاجتماعية والتزامات أميركا في العراق وأفغانستان وغيرهما، وتمسكه بتأييد حق الاجهاض ودعم التعليم العلماني والتعددية الثقافية، فضلاً عن تأييده لسياسات العمل الإيجابي أو نظام الحصص مما يستفيد منه الأفقر بين الطبقات والاثنيات الأميركية·
وهذا جميعاً يخوله الظهور بمظهر من يستأنف العهد الكلينتوني وانجازاته الاقتصادية التي تردد نائب الرئيس والمرشح آل غور في استخدامها، عام ،2000 في معركته ضد جورج دبليو بوش·فآل غور، بغباء وجبن، لا يحسد عليهما، شاء ألا يذكّر بأي من انجازات عهدي كلينتون، وعهديه هو استطراداً، خوفاً من أن ترتد عليه سلباً آثار فضيحة مونيكا لوينسكي·
وعلى أية حال فالأمور تغيرت الآن، فيما النتائج