إن نظرة إلى تاريخنا العربي المعاصر تبين أن شهر سبتمبر ارتبط في هذه المنطقة بالأحزان، ولنأخذ الأمثلة· في 28 سبتمبر 1961 حصل الانفصال بين مصر وسوريا بعد أن كونتا لثلاثة أعوام ونصف العام دولة واحدة تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة· لقد أدت هذه التجربة الوحدوية الأولى إلى إشعال الحماس بين الجماهير العربية التي شعرت أن حلمها في الوحدة العربية المأمولة في المنطقة بأسرها قد أصبح قاب قوسين أو أدنى· ولكن جاءت الحركة الانفصالية لتوجه ضربة قاسية إلى هذا الحلم الجميل والأمل المنشود، وفي الواقع فإن الصدمة التي شعر بها عبدالناصر في هذا اليوم كانت مثل خنجر مسموم دخل في صدره، وحقيقة كانت هذه الأزمة سبباً مباشراً لإصابته بالسكر، هذا السكر الذي أودى بحياته كما سنرى بعد قليل.
بين حركة الانفصال في سنة 1961 ووفاة عبدالناصر في ،1970 كانت هناك الثورة اليمنية في 26 سبتمبر ،1962 وعلى رغم أن هذه الثورة كانت مطلوبة لتخليص اليمن من براثن العصور الوسطى التي كان يعيش فيها مع أسرة حميد الدين، إلا أن هذه الثورة أدت إلى انقسام المجتمع اليمني وقيام الحرب الأهلية مع تدخل القوات المصرية التي أصبحت تنزف دماً متواصلاً في جبال اليمن· وبما أن فترة الستينيات هذه كانت فترة الحرب الباردة العربية، وانقسام دول هذه المنطقة بين أنظمة سياسية محافظة وأنظمة ثورية أو راديكالية، فإن وجود قوات الجيش المصري بجانب الجمهوريين في اليمن وبالقرب من الحدود السعودية شكّل تهديداً وأوشك أن يجعل الحرب الباردة العربية تتحول إلى حرب ساخنة بين مصر والسعودية، أو بين الأنظمة الثورية والملكيات المحافظة· ولكن في النهاية جاءت الحرب العربية-الإسرائيلية في 1967 والمعروفة باسم حرب الأيام الستة، لتؤكد الانكشاف الاستراتيجي للجيش المصري الموزع بين جبهة في شبه الجزيرة العربية وجبهة في سيناء· وكانت الهزيمة القاسية للجيوش العربية المشتركة في هذه الحرب ضربة قاسية أخرى للزعيم عبدالناصر وأمانيه في استقلال وتوحيد المنطقة· وفي النهاية اشتدت وطأة المرض عليه، ولكنه استمر، على رغم نصيحة الأطباء، في العمل الشاق -على المستويين المصري والعربي- لمحو آثار الهزيمة في أسرع وقت ممكن· والعمل الشاق قد يواجه أزمات، داخلية في مصر أو خارجية على المستوى العربي· ولعل من أهم الأزمات العربية في هذه الفترة هي الحرب الأهلية في الأردن بين حكومة هذا البلد والمنظمات الفلسطينية التي كانت متمركزة هناك تحت قيادة ياسر عرفات، هذه الحرب الأهلية التي وصلت إلى أوجها في سبتمبر 1970 والتي تعرف الآن في التاريخ العربي بأيام أيلول الأسود · استدعى عبدالناصر على عجل مؤتمر قمة عربية في القاهرة لوقف نزيف الدماء هذا، ولتوحيد الجهود العربية ضد المحتل الإسرائيلي· وقراءة صحف هذه الأيام من سبتمبر 1970 تبين الجهد الخارق الذي بذله عبدالناصر بالاشتراك مع الزعماء العرب لوضع حد لهذه الحرب الدامية· وكنتيجة لهذا الإفراط في العمل الشاق من جانب رجل مريض، انهار عبدالناصر في مطار القاهرة إثر توديعه آخر الضيوف· كانت وفاته في يوم 28 سبتمبر ،1970 أي اليوم نفسه الذي حدث فيه الانفصال المصري-السوري قبلها بتسع سنوات، أي الصدمة الأولى التي أدت إلى إصابته بالسكر وعمره 43 عاماً·
ولنقفز إلى السبعينيات لنرى أن سبتمبر 1978 كان مرادفاً لاتفاقية كامب ديفيد التي مهدت لمعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية والتي قنّنت الصلح المنفرد بين دولة عربية وإسرائيل·
مؤتمر كامب ديفيد هذا لم يؤد فقط إلى الصلح المنفرد وتحطم الجبهة الموحدة في مواجهة إسرائيل، ولكنه أدى أيضاً إلى تكريس وتقنين وجود الدولة القطرية العربية بديلاً عن الدولة العربية الموحدة· هذا هو في الواقع المعنى الكبير الذي تضمنه اتفاق كامب ديفيد · ولا شك أن الأحداث من هذا التاريخ تذكر هذا المعنى· ولكن سبتمبر يصر على أن يلازمنا بأحداث تبدو في ظاهرها إيجابية ولكن تنتهي في النهاية بنتائج مأساوية، وأكبر مثل على ذلك اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993 بين الفلسطينيين وإسرائيل· وقد أدى الاعتراف المتبادل من الجانبين إلى انتعاش الأمل في تسوية دائمة، ولكننا نرى أننا أبعد ما يكون عن هذا الأمل· وبعد الانتفاضة التي دامت حتى الان ثلاث سنوات، فإننا لا زلنا أبعد ما يكون عن نهاية المعاناة والقتل والتدمير بين صفوف الشعب الفلسطيني· وهكذا يصبح شهر سبتمبر شهر الأحزان حتى على المستوى الشخصي· فقد توفي الأسبوع الماضي الصديق إدوارد سعيد، أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا والمناضل الفلسطيني المعروف، وذلك بعد صراع طويل مع مرض سرطان الدم، ولكن تبقى لنا نظرياته عن الاستشراق كنوع من الهيمنة الأجنبية والاستعمار·فمع السلامة سبتمبر، وليكن سبتمبر المقبل بداية لعصر جديد أكثر إشراقاً.