مواصلة لحديثنا السابق حول أهمية تسليط الضوء على التناقضات الاجتماعية والأحداث المحلية السائدة التي تشغل البال وتقض المضاجع، علق أحد الظرفاء بالقول إن فئة المنتفعين والوصوليين المستهدفة في مقالاتنا المنشورة حول أمراضنا الاجتماعية تبدو مرهقة وتشعر بعدم الراحة للأثر والصدى الذي أخذت تتركه هذه المقالات في نفوس عامة الناس· ولكن يدعي، بعض أركانها، بأن استمرار سياسة إظهار الولاء الأعمى وركوب الموجة السائدة تقتضيه المحافظة على أوضاعها المادية المريحة· ولأن علاقة هذه الفئة الاجتماعية ضعيفة، فإنها لا تشعر بثقل الأخطاء المتراكمة وجسامة الأخطار المحدقة، ولا تدرك أن التغيير هو سنة الطبيعة والوجود وأن الناس أصبحت تراقب وتنتقد وتسجل ما يحدث، وبالتالي فإن الأفكار والسلوك يجب أن تتبدل في ضوء هذه الحقائق· ولكن لأن تفكيرها وهمها محصور في الحفاظ على امتيازاتها الآنية، دون النظر إلى وجود الغير وخصوصياتهم فإنها تعمد إلى تخدير البعض من صناع القرار بإيهامهم أنهم هم وحدهم المبدعون والمنقذون من الضلال، حتى تجعل منهم أفرادا مغيبين عن كل ما يمت بصلة إلى مسؤولياتهم والمفاهيم الحديثة في شؤون الإدارة والاجتماع والسياسة والاقتصاد·
لهذه الأسباب ولغيرها فشلت بعض مؤسساتنا الدستورية في القيام بدورها في حياتنا السياسية وفي تطورنا الاجتماعي· ولعل مرد فشل أغلب هذه المؤسسات هو أنها تخضع لشخصية رئيسها وتستمد قوتها منه، أكثر مما تستقيه من نشاطها أو انجازاتها· وكان بإمكان مسؤولي هذه المؤسسات أن ينتهزوها فرصة لتحقيق بعض الإصلاحات، إلا أنهم، مع الأسف، عوضاً عن ذلك اختاروا الانغماس في آليات السلطة انطلاقاً من الأستوقراطية (الفوقية) المتمثلة في الجاه والنفوذ المالي· كما آثروا الاعتماد على أشخاص (أو أتباع) غير مؤهلين مهنياً ويمارسون سلطاتهم بشكل ممسوخ يثير السخرية حيناً والشفقة أحياناً أخرى، مما خيب أمل الأغلبية الساحقة من المواطنون فيهم وفضلوا (أي المواطنين)، محافظة على صفاء إنسانيتهم وسلامة مبادئهم الاجتماعية، الابتعاد عنهم·
والظاهرة التي تسترعي الانتباه هي أننا نعرف ونسمع عن قياديين (أغلبهم من الأسر الحاكمة) واعين ومتفانين، فرضوا أنفسهم وجلبوا الانتباه بتفوقهم في القيام بمسؤولياتهم واستمدوا هيبتهم الاجتماعية من أعمالهم وانجازاتهم ووعيهم للأحداث الجارية على الساحة المحلية والعربية والعالمية، مما جعلهم يحظون بثقة القيادات العليا، ويكونون محل تقدير واحترام كل المواطنين· ويلاحظ أن هؤلاء غالباً ما يقفون على طبيعة أفكار عناصر مخلصة وملتزمة وتستخدم المناهج والمفاهيم العلمية في تسيير شؤونها· فضلاً عن أنها تذهب هذا المذهب لإدراكها بأن المجتمع أصبح أشد تخطيئاً وتحفظاً عليها، وأكثر تصفحاً لسيرتها وأعمالها، منه عن باقي الناس، مما جعلها تجتهد لتكون قدوة في سلوكها وانجازاتها، وكأنها بذلك تسعى إلى إكمال رسالة أو مهمة باشرها أسلافها من القادة ونجحوا فيها·
ولكن كل الدلائل تشير إلى أنه حفاظاً على التوازن العرفي أو المؤسسي (أو العائلي)، هناك تفاهم ضمني، أو تهادن، أو اتفاق (غير مكتوب)، بين أصحاب المناصب الحكومية العليا أو القادة عندنا· وهذا التفاهم يقضي بعدم تدخل أحدهما في شؤون الآخر، مهما بلغت درجات الإهمال والتقصير واللامبالاة، وكأنهم بذلك يطبقون نظرية البولييارشية (مراكز القوى المتعددة والمتوازنة)· ولكن أغلب الظن أنهم يذهبون هذا المذهب حتى لا يثيروا الرأي العام أو يتهموا بالغيرة وحب التسلط، أو بهدف إتاحة المجال للغير حتى يكون النقد موضوعياً ونزيهاً ويكون رأي عامة الناس هو الفيصل الحاسم في تعرية المسؤول والكشف عن أخطائه· وهذا لا يعني أننا لا نسمع، أحياناً، بعض الآراء والأقوال المتحررة التي توجه بـ شماتة لبعضهم عن بعض، من منطلق الوقوف في وجه بعض الانحرافات التي تهدد مستقبل البلد· لا شك أن هذه المواقف ساهمت في تكوين إرادة عامة أو رأي عام لدى المواطنين وتركتهم يناقشون وينتقدون سلوك بعض المسؤولين ويتخذون الموقف الملتزم منه· واستناداً إلى هذه الحرية قام مخلصون ينبهون بالأخطار ويطرحون التساؤلات الصريحة حول الأسباب التي تحول دون إحداث بعض الإصلاحات الضرورية للوضع المستمر، الذي يجعلنا نشعر وكأنه محكوم علينا أن نعيش في ظل واقع سياسي واجتماعي أبدي لا يجوز مسه أو تغييره···
وإذا ما استعرضنا أوضاع مختلف مؤسساتنا الدستورية (الاتحادية والمحلية) ودورها، يجمع كل مواطن، مسؤولا كان أم غير مسؤول، على أن هناك هوة سحيقة بين مستوى أدائها· فمنها، مثلاً، من تمارس أنشطتها بعقلية القرن الحادي والعشرين تتفوق على مثيلاتها في باقي أقطار العالم بعد أن كسبت الشهرة وحازت على الألقاب، وأخرى تبدو كما لو أنها تسير في الاتجاه المعاكس وتؤدي نشاطها بفكر ما قبل القرن الماضي، مما يعكس التباين الفكري والثقافي عند مسؤولينا وصناع القرار في بلادنا· فمنهم من يعتمد التخطيط والدقة والأمانة ويتمتع بتجارب وقدرات علمية وسلوكية م