كثيرة هي الدروس التي يمكن استخلاصها من الأزمة العراقية التي أخذت تتفاقم حتى أشعلت حرباً لم تضع أوزارها كلها بعد· وكثيرة أيضا الأطراف التي يمكن أن يفيدها استيعاب هذه الدروس، بدءا بدول المنطقة وانتهاء بالولايات المتحدة ومروراً بقوى دولية أخرى· وتتنوع دروس الأزمة العراقية باختلاف ظروف كل من هذه الأطراف وموقعه في مرحلة ما بعد الحرب· وتبدو ايران وسوريا في الموقع نفسه تقريبا، أو على الاقل في موقعين قريبين الى بعضهما بعضا، من حيث إن كلا منهما تواجه أزمة من جراء تعرضها الى ضغوط أميركية مصحوبة بنوع من التصعيد·
ولكن الفرق الأساسي بينهما في اللحظة الراهنة هو أن سوريا تدير هذه الأزمة بطريقة أفضل نسبيا، وتبدو أكثر استيعابا للدرس العراقي مقارنة مع ايران· وهذا الفرق أكثر أهمية من الاختلاف في موقع كل منهما في القائمة التي تعتمدها واشنطن لتحديد التهديدات التي تتعرض لها· فإيران جزء مما أسماه الرئيس بوش محور الشر ، بخلاف سوريا· ولكن في داخل إدارته، وفي الكونجرس، الآن من يطالبون بضم سوريا إلى هذا المحور بدلاً من العراق الذي خرج منه· ولا يمكن استبعاد حدوث ذلك إلا إذا واصلت سوريا إدارة الأزمة بصورة عقلانية بدرجة أو بأخرى، ونجحت بالتالي في استيعاب الدرس العراقي الى أقصى درجة ممكنة· وهي تسير في هذا الاتجاه حتى الآن، بخلاف إيران التي يتنازعها، في هذه القضية كما في غيرها، الاتجاهان المتشدد أو المحافظ والمعتدل أو الاصلاحي·
ويعد الشهر الجاري (اكتوبر) حاسما إلى حد كبير بشأن الطريق الذي ستسلكه إيران في إدارة الأزمة المتعلقة بالكشف عن كل تفاصيل برنامجها النووي· فالظاهر حتى الآن أن الجناح المتشدد، الذي لم يستوعب بعد الدرس العراقي بشكل، هو الأعلى صوتاً والأكثر تأثيرا· وإذا استمر ذلك حتى نهاية المهلة التي حددتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نهاية الشهر الجاري، فربما يكون هذا مؤشرا على أن ايران تسير في الاتجاه الذي مضى فيه عراق صدام حسين من قبل دون أن تستوعب أي درس·
والدرس هنا، واضح تمام الوضوح· فقد رفض النظام العراقي السابق قبول عودة المفتشين على أسلحة الدمار الشامل لنحو ثلاث سنوات بعد خروجهم في أواخر ·1998 وأخذ يتشدق بسيادة العراق، على رغم أن شروط التفتيش خلال الفترة بين العامين 1991 و1998 لم تكن أكثر إخلالا بهذه السياة مقارنة بالحظر الجوي الذي فرضته الولايات المتحدة وبريطانيا في شمال وجنوب البلاد· وأدى سوء ادارة النظام العراقي للأزمة إلى تراجعه وامتثاله لعودة المفتشين بشروط أكثر قسوة أتاحت لهم الدخول الفوري الى مناطق كان عليهم، قبل ذلك، إبلاغ السلطات العراقية مسبقا برغبتهم في تفتيشها· وصار في إمكان المفتشين دخول غرف نوم الرئيس العراقي في قصوره كافة دون استئذان· وعلى رغم قبوله هذه المهانة، فقد فعل ذلك بعد فوات الأوان في وقت صار تجنب الحرب فيه يحتاج إلى شبه معجزة· وكان في إمكانه أن يقبل عودة المفتشين عام 1999 بشروط أقل انتهاكا للسيادة العراقية·
وهذا هو ما ينبغي أن يضعه المسؤولون الايرانيون نصب أعينهم، خصوصا الذين يعلنون في خطبهم النارية أنهم حريصون على سيادة بلادهم· فرفض توقيع البروتوكول الاضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية لن يحفظ سيادة ايران، بل سيكون بداية تقويض هذه السيادة·
وتبدو سوريا أكثر استيعابا للدرس العراقي في إدارتها للأزمة الناجمة عن تصاعد الضغوط الاميركية عليها بشأن سياستها تجاه العراق ولبنان والقضية الفلسطينية· فقد تعاملت مع هذه الضغوط بدرجة معقولة من المرونة دون أن تقدم تنازلات جوهرية، وأظهرت قدرة على المناورة وإدراك معطيات الواقع، على رغم ضعف معرفة صانعي القرار فيها بالقوى الفاعلة في عملية صنع القرار في واشنطن·
فقد وضعت دمشق هدفا محددا تسعى اليه هو احتواء الازمة وتبريدها، فاتبعت دبلوماسية التهدئة في الوقت الذي اتجهت ادارة بوش إلى التصعيد عقب سقوط بغداد· كما أبدت عناية فائقة بمناقشة ما طرحته واشنطن كمطالب محددة تريد من سوريا الالتزام بها· فلم ترفض البحث فيها، ولكنها حاولت أن يكون ذلك في اطار حوار جاد بين طرفين، وليس كاملاءات تفرضها الولايات المتحدة عليها من جانب واحد·
وكانت زيارة وزير الخارجية كولن باول الى دمشق في 2 مايو الماضي بداية لهذا التحول باتجاه الحوار· وعلى رغم قلة عدد الجنود الذين تم سحبهم (حوالى ألف جندي من بين نحو 20 ألفا) فقد حمل هذا الاجراء في طياته رسالة مفادها الاستعداد للتفاهم بخصوص التحفظات الاميركية على الدور السوري في لبنان· وأعطاها هذا الانسحاب الجزئي المحدود فرصة لترحيل الخلاف على دور حزب الله اللبناني الى مرحلة لاحقة، خصوصا في ظل ادراك واشنطن أن دمشق لا تملك كل مفاتيح هذا الدور·
كما استفادت سوريا من الخطأ الذي ارتكبته اسرائيل في آخر يوليو الماضي عندما عادت الى التصعيد ضد حزب الله ، عبر اغتيال أحد أبرز كوادره في بيروت، الامر الذي خلق أزمة أزعجت واشنطن وساهمت دمشق في احتوائها اعتمادا على حكمة قيادة هذا الح