في الثلاثين من أغسطس المنصرم، كانت الغواصة الروسية النووية 159-K وهي من طراز الجيل الأول من الغواصات الروسية النووية، قد غرقت في بحر بارينتس متأثرة برداءة الظروف الجوية، فغرق معها تسعة بحارة وفقدوا أرواحهم· كانت الغواصة المذكورة قد أمر سلاح البحرية الروسي بإيقافها عن الخدمة منذ عام ،1989وكانت في طريقها إلى موقع تفكيك الغواصات المستبعدة عن الخدمة في نيبرا القريبة من مورمانسك· إلا أنها غاصت تحت مياه البحر أثناء سحبها بواسطة غواصة أخرى إلى الموقع المذكور· المهم قوله هنا هو أن حادثة الغواصة 159-K ما هي في الواقع سوى نموذج عام لمظاهر الضعف والبلى التي يعاني منها مجمل القطع التابعة لسلاح البحرية الروسي، بسفنه وغواصاته وغيرها· فعدا هذه الغواصة هناك ما يزيد على ثلاثين غواصة أخرى من بنات الجيل الأول نفسه، بدأت تدب فيها مظاهر البلى والشيخوخة والتدهور· فأعراض المرض واحدة ومشتركة بين جميع الغواصات المذكورة· وتتمثل هذه الأعراض في عدة جوانب منها مشكلة التسريب من أغطيتها، عدم دقة أداء نظمها، علاوة على مشكلة تدهور مستوى السلامة فيها·
غير أن الشيخوخة التي يعانيها الجيل الأول من الغواصات الروسية النووية، ليست سوى مظهر واحد فحسب من مظاهر الضعف التي ألمت بسلاح البحرية الروسي· فحتى الغواصات نفسها لا تقف مشكلاتها عند حدود ما ذكرنا أعلاه· فهناك 192 غواصة من الطراز نفسه تم إيقافها من الخدمة وأعقب ذلك القرار تفكيكها بالكامل· ولكن المشكلة هي أنه لا توجد أمكنة للتخلص من الوقود النافد لهذه الغواصات النووية ولا للخردة المشعة المتخلفة عن تفكيكها·
كإجراء مؤقت لم يجد سلاح البحرية الروسي حلا آخر وأفضل من أن يحفظ أكثر من ثمانين من هذه الغواصات داخل حاويات للتخزين طافية على سطح البحر، على أن تتم مراقبتها وصيانة أية صدوع أو تشققات تحدث على سطحها أو مظاهر تسريب فيها على نحو دوري ومنتظم· إلى جانب ذلك، هناك أكثر من 40 نوعا آخر من الغواصات والسفن المستبعدة من الخدمة تم إرساؤها في موانئ ومواقع روسية عديدة، منها غواصتان نوويتان تحطمتا في حوادث بحرية مختلفة وتحتاجان إلى معاملة ومعالجة خاصة، إلا أنهما لا تزالان تقفان مثل غيرهما من القطع البحرية العادية في إحدى قواعد البحرية الروسية القريبة من فلاديفوستك الواقعة علي مياه البحر الياباني·
إلى ذلك كله فإن نظم الرقابة الاشعاعية البيئية المتوفرة الآن للبحرية الروسية لا تتعدى كونها نظما أولية وبدائية جدا· وهذا يعني شيئا واحدا هو ضعف وتخلف مستوى الرقابة البيئية على الغواصات النووية المذكورة ، وبالتالي ارتفاع مستوى الخطر والكوارث البيئية والصحية التي تنذر بها في المناطق التي تمت الإشارة إليها آنفا· يضاف إلى هذا كله أن الخطر النووي الناشئ عن التركة التي خلفتها سنوات الحرب الباردة لا تقف تهديداته وآثاره المتوقعة على الروس وحدهم، وإنما تشمل جيرانهم أيضا· فحادثة الغواصة 159-K لم تكن هي الوحيدة التي يشهدها سلاح البحرية الروسي· بل سبقها غرق غواصة أخرى ملغية مثلها من الخدمة، و في ظروف مشابهة عام 1997 قرب شبه جزيرة كماشاتكا، فغاصت في مياه البحر، إلا أنها ولحسن الحظ، لم تتكرر فيها مأساة غرق الملاحين مثلما حدث في الغواصة الأخيرة· ومن سوء حظ الغواصة الأخيرة أنها غرقت في منطقة ملاحة بحرية نشطة وتجري فيها عمليات الصيد التجاري للأسماك·
للحقيقة فإن غرق الغواصة 159-K بحد ذاته لا يرجح أن تنشأ عنه كارثة بيئية نووية· فمع أن مفاعلاتها تحتوي على وقود نووي نافد، إلا أن الجسم الخارجي للغواصة وطبقات الحماية السميكة المزودة بها، كفيلان بأن يمنعا تسرب أية مواد إشعاعية بدرجة تنجم عنها كارثة نووية· ولكن ما حدث للغواصة المذكورة كفيل بدق ناقوس الخطر، ليس خوفا على حياة الروس وجيرانهم وحدهم، وإنما على المجتمع الدولي كله، الذي بات عليه أن يقف ويساعد في الإسراع بتنفيذ برنامج تفكيك ما تبقى من غواصات وقطع بحرية نووية نافدة ومستبعدة من الخدمة، وتأمين ظروف وشروط بيئية ملائمة للتخلص من بقاياها وموادها النووية المشعة· وعلى المجتمع الدولي أن يتوقع كارثة أكبر مما يمكن أن تخلفه الغواصة 159-K فيما لو تقاعس عن أداء دوره ومسؤوليته· ذلك أن معظم الغواصات الروسية القديمة من طراز الغواصة المنكوبة مؤخرا تنطوي على خطر نووي أكبر، لكونها تعاني من معدلات تسريب إشعاعي أكبر مما هو عليه حال الغواصة الأخيرة· والمشكلة هي أن هذه الغواصات لا تزال على بعد مئات الأميال من المواقع التي يفترض أن يتم تفكيكها فيها والتخلص من بقاياها·
صحيح أن روسيا في الآونة الأخيرة شرعت في بذل جهد كبير ومقدر في هذا الاتجاه بمساعدة فنية ومالية من قبل الولايات المتحدة الأميركية بغية الإسراع في برنامج التخلص من القطع النووية المستبعدة عن الخدمة وتأمين المواد النووية المشعة المتخلفة عنها· ولكن المشكلة هي أن روسيا تفتقر إلى القوة البشرية والموارد الكافية لتنفيذ هذا البرنامج على النحو المطلوب وبالسرعة ال