يعتبر طابور طويل من المسؤولين والمثقفين الرسميين، وغير الرسميين، أن الشعوب العربية غير ناضجة، أو لم تبلغ سن الرشد، وما زالت تحتاج إلى الرعاية والمراقبة الحازمة تجاه ما تقرأ أو تشاهد، أو حتى تتخيل· هذا الطابور في بعض الدول العربية يبدأ من صناع القرار على اختلاف مستوياتهم ولا ينتهي عند عشاق الصراخ، والساعين إلى إخراس أي صوت آخر في المنتديات، أو أدعياء الورع والتقوى في كل محفل·
وتستوي في عيون هؤلاء وأولئك كل الأجيال،فالجيل السابق أمي جاهل، والجيل الحالي مغيّب مستغرب، أما الجيل القادم فهو، مشروع ردة حتمية وفساد حقيقي، وخيانة مؤكدة، إن لم يقوموا هم بسد منافذ الشيطان وتقوية الأمة للثبات على التقوى· و منافذ الشيطان في منطق هؤلاء هي، طبعاً، تلك الأفكار والتساؤلات عن الوثوقية المطلقة والإيمان الأعمى والإكليشيهات الثابتة الجاهزة التي يريد البعض صهر المجتمع برمته ثم قولبته داخلها·
وحتى لا يظن القارئ أنني بصدد طرح قضية الديمقراطية أو تداول السلطة أو التمثيل البرلماني أو توزيع الثروة وحزمة القضايا الأخرى المتعلقة بالحقوق السياسية والمشاركة، فإنني سأحدد أن ما سأطرحه هنا، هو الحساسية المفرطة تجاه ما ينشر أو يتداول من آراء وأفكار وتساؤلات لا تخرج عن الحق الأصيل للكاتب والقارئ معاً في المعرفة والبحث وتكوين الرأي دون التشكيك في الثوابت الأساسية للعقيدة والوطنية وغيرها، هذا طبعاً على أن يبقى حق الرد على ما ينشر مضموناً، والحرية في إبداء الرأي والاختلاف مبدأ ومنطلقاً للقارئ· لأن القراءة بمعناها المنهجي هي إعادة كتابة تثري النص المقروء بما تفتح له من آفاق واسعة للفهم والتأويل·
إننا نعاني في الوطن العربي من ضمور واضح في الإنتاج الفكري، وما زلنا في كل مرة نتعثر بالعتبات الإشكالية التي تحول دون ترسيخ أي فكر نقـــدي يضمن توافــــر الشروط-التي بوجودها توجد، وبانعدامها تنعدم- أية إمكانية لبناء نهضة حقيقية، تكون فضاء فكرياً وتصورياً يتسع للجميع ويسهم الجميع في رفده، وبنائه شأن أي مشروع إنساني عقلاني مستنير· ومثل تلك العقبات، أو العتبات، لا يمكن تجاوزها ما لم تنفرج المدارك، وتتسع الصدور، بعيداً عن أية محاكمة للنوايا أو خنق أو تضييق على حرية الرأي والاجتهاد·
وما نعنيه هنا، بعبارة أخرى، أكثر وضوحاً، هو أننا في حاجة إلى تجاوز لغة التخوين والتهويل، وعقلية محاكم التفتيش· وفي حاجة، بدلاً من ذلك، إلى الانفتاح على ثقافة الحوار الداخلي، بإشاعة الحرية الفكرية، والإيمان بالنهضة العربية والإسلامية كغاية نسعى إليها جميعاً، ولكن مع ترك هامش حرية منهجي واجتهادي واضح لكل المدارس الفكرية المختلفة لكي تحدد الطريق الذي تسلكه إلى تلك الغاية·
وبتعدد القراءات والمدارس يرتقي السجال ويصبح التعاون والإيمان بالآخر جزءاً من طريقتنا في التفكير، ودعامة من دعامات نهضتنا المنشودة· هذا، طبعاً، مع الحرص، بشكل خاص، على مراعاة ما يقتضيه أدب الحوار، بعيداً عن أية روح اختزالية، أو رغبة في الاستبعاد والاستئصال للآخر، كفكرة وكرأي، وأيضاً كمنهج مختلف أو كاستراتيجية جديدة في فهم الأشياء وتسميتها·
وعندما تأتي الحساسية المفرطة أو أحكام القيمة، مدحاً أو قدحاً، ضد ما ينشر أو يطرح من آراء وأفكار تعبر عن مدارس فكرية مختلفة، فقط انطلاقاً من الأغلفة والعناوين والواجهات دون تمحيص أو تدقيق ، فإن ذلك يكون دليلاً آخر على مأزقنا العربي المزدوج: عدم قدرة على النقد، ومن ثم تعثر في مشروعنا النهضوي المنشود·